وجوب اتباع القرآن الكريم {المص(1)كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3)}
{
المص} تقدم في أول سورة البقرة الكلام عن الحروف المقطّعة وأن الحكمة في ذكرها بيان _"إِعجاز القرآن" بالإِشارة إِلى أنه مركب من أمثال هذه الحروف ومع ذلك فقد عجز بلغاؤهم وفصحاؤهم وعباقرتهم عن الإِتيان بمثله وروي عن ابن عباس معناه: أن الله أعلم وأَفْصِل، وقال أبو العالية: الألف مفاتح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صداق والله أعلم {
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزله الله إِليك يا محمد وهو القرآن {
فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي لا يضقْ صدرك من تبليغه خوفاً من تكذيب قومك {
لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لتنذر بالقرآن من يخاف الرحمن، ولتذكّر وتعظ المؤمنين لأنهم المنتفعون به {
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي اتبعوا أيها الناس القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان المنزّل إِليكم من ربكم {
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي ولا تتخذوا أولياء من دون الله كالأوثان والرهبان والكُهّان تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعون لكم {
قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي تتذكّرون تذكراً قليلاً. قال
الخازن: أي ما تتعظون إِلا قليلاً.
عاقبة مخالفة الرسل وتكذيبهم {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4)فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)}
{
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي وكثير من القرى أهلكناها والمراد بالقرية أهلُها {
فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} أي جاءها عذابنا ليلاً {
أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي جاءهم العذاب في وقت القيلولة وهي النوم في وسط النهار.
قال أبو حيان: وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع لأنه يكون على غفلةٍ من المهلكين {
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا} أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين شاهدوا العذاب ورأوا أماراته {
إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي إِلا اعترافهم بظلمهم تحسراً وندامة، وهيهات أن ينفع الندم.
وزن أفعال العباد يوم القيامة {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7)وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(9)}
{
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي لنسألن الأمم قاطبة هل بلّغكم الرسل وماذا أجبتم؟ والمقصودُ من هذا السؤال التقريع والتوبيخ للكفار {
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي ولنسألنَّ الرسل أيضاً هل بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة ؟
قال في البحر: وسؤال الأمم تقريرٌ وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة نكالاً وعذاباً، وسؤال الرسل تأنيسٌ يعقب الأنبياء كرامة وثواباً {
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} أي فلنخبرهم بما فعلوا عن علمٍ منا.
قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي ما كنا غائبين عنهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي والوزن للأعمال يوم القيامة كائن بالعدل ولا يظلم ربك أحداً {
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان وكثرة الحسنات {
فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي الناجون غداً من العذاب الفائزون بجزيل الثواب {
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي ومن خفت موازين أعماله بسبب الكفر واجتراح السيئات {
فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي خسروا أنفسهم وسعادتهم {
بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} أي بسبب كفرهم وجحودهم بآيات الله،
قال ابن كثير: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإِن كانت أعراضاً إِلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً يروى هذا عن ابن عباس، وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة، وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة) والكل صحيح فتارةً توزن الأعمال، وتارةً محالها، وتارة يوزن فاعلها والله أعلم. أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإِذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد، واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر؟
التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(10)}
{
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لكم أيها الناس في الأرض مكاناً وقراراً،
قال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها {
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب وسائر ما تكون به الحياة {
قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ومع هذا الفضل الإِنعام قليل منكم من يشكر ربه كقوله {وقليلٌ من عبادي الشكور}.
التنبيه على تكريم آدم وبيان عداوة إبليس لذريته {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(11)قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(13)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(15)قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)}
{
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم آدم طيناً مصوَّر ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم، وإِنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له لأنه أبو البشر {
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} أي ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ولذريته {
فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} أي سجد الملائكة كلهم أجمعون إِلا إِبليس امتنع من السجود تكبراً وعناداً، والاستثناء منقطع لأنه استثناء من غير الجنس وقد تقدم قول الحسن البصري: لم يكن إِبليسُ من الملائكة طرفة عين {
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أي قال تعالى لإِبليس أيُّ شيء منعك أن تدع السجود لآدم؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ {
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال إِبليس اللعين أنا أفضل من آدم وأشرف منه فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ثم ذكر العلة في الامتناع فقال {
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي أنا أشرف منه لشرف عنصري على عنصره، لأنني مخلوق من نار والنار أشرف من الطين، ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى.
قال ابن كثير: نظر اللعين إِلى أصل العنصر ولم ينظر إِلى التشريف والتعظيم وهو أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً فأخطأ قبّحه الله في قياسه في دعواه أن النار أشرف في الطين، فإِن الطين من شأنه الرزانة والحلم، والنار من شأنها الإِحراق والطيش، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإِصلاح والنار محل العذاب ولهذا خان إِبليس عنصره فأورثه الهلاك والشقاء والدمار.
قال ابن سيرين: أول من قاس إِبليس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إِبليس {
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي اهبط من الجنة فما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي أن تستكبر عن طاعتي وأمري وتسكن دار قدسي {
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ} أي الذليلين الحقيرين.
قال الزمخشري: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبسه الله الذل والصغار فمن تواضع لله رفعه ومن تكبّر على الله وضعه {
قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} استدرك اللعين فطلب من الله الإِمهال إِلى يوم البعث لينجو من الموت لأن يوم البعث لا موت بعده فأجابه تعالى بقوله {
قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ}
قال ابن عباس: أنظره إِلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم وكان طلب الإِنظار إِلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه ويؤيده الآية الأخرى {
قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ*
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } {
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي فبسبب إِغوائك وإِضلالك لي لأقعدنَّ لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة الموصل للجنة كما يقعد القُطّاع للسابلة {
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي آتي عبادك من كل جهة من الجهات الأربع لأصدّهم عن دينك،
قال الطبري: معناه لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدهم عن الحق وأحسّن لهم الباطل.
قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى {
وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أي مؤمنين مطيعين شاكرين لنعمك {
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} أي اخرج من الجنة مذموماً معيباً مطروداً من رحمتي {
لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} اللام موطئة للقسم أي لمن أطاعك من الإِنس والجن لأملأنَّ جهنم من الأتباع الغاوين أجمعين، وهو وعيد بالعذاب لكل من انقاد للشيطان وترك أمر الرحمن.