تنزيل الكتب السماوية،وإنذار الكافرين من عذاب الله {الَمَ(1)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ(3)مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(4)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)}
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآيات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم "عبد المسيح" أميرهم و "الأيهم" مشيرهم و"أبو حارثة بن علقمة" حبرُهم، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه فقالوا تارةً عيسى هو "الله" لأنه كان يحيي الموتى، وتارةً هو "ابن الله" إِذ لم يكن له أب، وتارة إِنه "ثالث ثلاثة" لقوله تعالى "فعلنا وقلنا" ولو كان واحداً لقال "فعلتُ وقلتُ" .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يموت"!! قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه!! قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إِلا ما علم؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث!! قالوا بلى فقال صلى الله عليه وسلم فكيف يكون كما زعمتم؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية.
{
الَمَ}إِشارة إِلى إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية وقد تقدّم في أول البقرة{
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره {
الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شؤون عباده {
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة {
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن .
{
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} أي أنزل الكتابين العظيمين "التوراة" و"الإِنجيل" من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل {
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} أي جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقيل: المراد بالفرقان القرآنُ وكرّر تعظيماً لشأنه {
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل {
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي عظيم أليم في الآخرة {
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي غالب على أمره لا يُغلب، منتقم ممن عصاه .
{
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور، فهو مطَّلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} أي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى، وحَسن وقبيح {
لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي لا ربّ سواه، متفردٌ بالوحدانية والألوهية، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد.
المحكم والمتشابه في القرآن{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الألْبَابِ(7)رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)}.
{
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم {
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها ولا غموض كآيات الحلال والحرام، هنَّ أصل الكتاب وأساسه {
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي وفيه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، فمن ردّ المتشابه إِلى الواضح المحكم فقد اهتدى، وإِن عكس فقد ضلّ ولهذا قال تعالى {
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي فأمّا من كان في قلبه ميلٌ عن الهدى إِلى الضلال فيتبع المتشابه منه ويفسّره على حسب هواه {
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي طلباً لفتنة الناس في دينهم، وإِيهاماً للأتباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى في شأن عيسى
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] على أن عيسى ابن الله أو هو جزء من الله فادعوا ألوهيته وتركوا المحكم وهو قوله تعالى {
إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] الدالّ على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله .
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} أي لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي إِلا الله وحده {
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي الثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه وأنه من عند الله {
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي كلٌ من المتشابه والمحكم حقٌ وصدق لأنه كلام الله، قال تعالى {
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الألْبَابِ} أي ما يتعظ ويتدبر إِلا أصحاب العقول السليمة المستنيرة .
{
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي لا تُمِلْها عن الحق ولا تضلّنا {
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي بعد أن هديتنا إِلى دينك القويم وشرعك المستقيم {
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي امنحنا من فضلك وكرمك رحمةً تثبتنا بها على دينك الحق {
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي أنت يا رب المتفضل على عبادك بالعطاء والإِحسان {
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي جامع الخلائق في ذلك اليوم الرهيب "يوم الحساب" الذي لا شك فيه {
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي وعدك حق وأنت يا رب لا تخلف الموعد، كقوله تعالى {
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا}؟! [النساء: 87].